يرى كاتب المقال في المركز العربي في واشنطن دي سي، أنّ الحرب المشتعلة في السودان منذ منتصف أبريل 2023 كشفت فشل المجتمع الدولي في كبح نزاعٍ دمّر البلاد، وفضحت كذلك عجز القوى الإقليمية عن دعم أي مسار ديمقراطي حقيقي. اندلع الصراع بين القوات المسلحة السودانية بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، فتحوّل إلى حربٍ مفتوحة خلّفت كارثة إنسانية شاملة، وانتهت بانقسام البلاد إلى حكومتين متناحرتين: حكومة "الأمل" في بورتسودان تحت سيطرة الجيش، وحكومة “السلام والوحدة” في نيالا بقيادة الدعم السريع.
يذكر المركز العربي واشنطن دي سي أن جذور الأزمة تمتد إلى الثورة الشعبية عامي 2018–2019 التي أطاحت بعمر البشير ونظامه العسكري الإسلامي. غير أن كبار الضباط سعوا للحفاظ على الدولة العسكرية بتأسيس مجلس عسكري انتقالي برئاسة البرهان، وضمّوا إليه قوات الدعم السريع، وهي في الأصل ميليشيات الجنجويد التي مارست جرائم إبادة في دارفور. بعد توقيع اتفاق تقاسم السلطة مع القوى المدنية، حافظ الجيش على السلطة الفعلية، ثم انقلب في أكتوبر 2021 على الحكومة الانتقالية، لتُغتال آمال الحكم المدني نهائيًا.
اشتعل الخلاف بين البرهان وحميدتي حول دمج قوات الدعم السريع في الجيش وتقاسم النفوذ الاقتصادي، خصوصًا في تجارة الذهب التي تُهرَّب بمعظمها إلى الإمارات، الداعم العسكري والمالي الرئيسي للدعم السريع. في المقابل، دعمت القاهرة الجيش السوداني خوفًا من تمدد نفوذ الميليشيات على حدودها الجنوبية، ومن تحالفات حميدتي مع إثيوبيا والإمارات التي تنافسها على النفوذ في حوض النيل. بهذا المعنى، لم تكن الحرب سوى صراع بين فصائل مضادة للثورة تحركها مصالح قوى داخلية وخارجية تريد الإبقاء على الدولة العسكرية.
استعاد الجيش في مارس 2025 السيطرة على الخرطوم بعد معارك مدمّرة، بينما أحكمت قوات حميدتي قبضتها على إقليم دارفور وغرب السودان، فأعلنت حكومة موازية في نيالا في أغسطس من العام نفسه. في أكتوبر 2025 سيطرت قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، آخر كبرى مدن دارفور، وبذلك تكرّس عمليًا تقسيم البلاد بين شرقٍ بيد الجيش وغربٍ بيد الميليشيات.
دفعت الحرب المدنيين ثمنًا فادحًا. قُتل عشرات الآلاف، ونزح أكثر من 11 مليون شخص داخل البلاد وخارجها. لجأ كثيرون إلى أكل أوراق الشجر وعلف الحيوانات بعد أن حاصرت قوات حميدتي مدينة الفاشر ومنعت عنها الغذاء والمساعدات. تحوّل الجوع إلى سلاحٍ لتطهير جماعي، بينما عطّلت قوات البرهان وصول الإغاثة إلى مناطق خصومها، لتتضاعف المأساة.
تدهورت الأوضاع أكثر مع تقليص المساعدات الدولية. الولايات المتحدة، التي كانت أكبر المانحين، خفّضت مساعداتها بعد تولّي دونالد ترامب الحكم مطلع 2025، فتوقفت برامج غذائية وصحية حيوية. وسارت فرنسا وألمانيا وسويسرا وبريطانيا على النهج نفسه. في هذا الفراغ الإنساني، تولّت "لجان المقاومة" السودانية وشبكات الإغاثة الشعبية إدارة جهود الإنقاذ عبر ما يُعرف بـ“غرف الطوارئ”، وهي مبادرات يقودها شباب الثورة لتوزيع الغذاء والمياه وتنظيم عمليات الإجلاء والرعاية الطبية. تموّل هذه الجهود الجاليات السودانية في الخارج وتُعدّ شكلًا من أشكال المقاومة المدنية، إذ تعيد بناء الثقة بين المجتمعات وتؤكد أن الشعب السوداني قادر على حماية نفسه دون الاعتماد على النخب العسكرية أو المانحين الأجانب.
حاولت الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات تشكيل ما يسمى بـ“الرباعية” للوساطة، لكن جهودها فشلت. فالقاهرة رفضت أي تسوية تمنح الدعم السريع دورًا سياسيًا، بينما رفضت الخرطوم الاعتراف بخصومها والتزمت بخيار الحسم العسكري. طرح التحالف خطة هدنة إنسانية لثلاثة أشهر تعقبها تسعة أشهر من انتقال سياسي نحو حكم مدني، لكن الأطراف المتحاربة تجاهلتها. لم تفرض الرباعية عقوبات على المعرقلين، ولم توقف تسليح الإمارات لقوات حميدتي أو دعم مصر للجيش، ما جعل الوساطة بلا أنياب.
يرى كاتب المقال أن فشل الوساطات يعكس غياب إرادة دولية حقيقية للضغط على القوى المتحاربة، إذ انحصرت المبادرات في وقف إطلاق نار مؤقت دون معالجة جذور الصراع أو إشراك القوى المدنية الفاعلة. لم تتجاوز العقوبات الأمريكية الرمزية حدود الدعاية السياسية، فيما استمرت الدول الداعمة في تغذية الحرب سرًا.
تحتاج السودان إلى وساطة تضع لجان المقاومة والمنظمات الشعبية في قلب العملية السياسية، لأنها الجهة الوحيدة التي تعبّر عن الشارع وتملك شرعية حقيقية. فالاتفاقيات السابقة التي صاغها العسكريون لم تُنفّذ لأنها أعادت إنتاج النظام القديم بوجوه مختلفة. إن تحقيق سلام مستدام يتطلب تفكيك بنية الدولة العسكرية، ووقف تدفق السلاح، وفرض حظر دولي على تصدير الأسلحة إلى الطرفين.
يخلص المقال إلى أن انتصار أيٍّ من الطرفين سيُبقي السودان أسير الاستبداد. الحل لا يكمن في مزيد من التسويات الشكلية، بل في تمكين السودانيين أنفسهم من بناء نظام ديمقراطي من القاعدة إلى القمة، حيث تكون السلطة انعكاسًا لإرادة الناس لا امتدادًا لجيوشهم. بهذا فقط يمكن للسودان أن يخرج من دوامة الدم إلى أفق العدالة والسلام الحقيقي.

